للثأر فى الصعيد قواعد وحسابات ومدارس ومذاهب.. من حقك تعرف التفاصيل
كتبت-فاطمة فتوح
كان طائر الموت يحلق بجناحيه فوق قرى ونجوع الصعيد منذ بداية الانتخابات البرلمانية، وحتى وقتنا هذا، نظرا للتركيبة القبلية المعقدة الموجودة بها، كما كانت طبول الثأر تدق على استحياء، مما جعل الناس جميعا يجترون ذكريات الصلح المؤلمة التى كانت تعقد لوأد الفتنة بين العائلات، ويتذكرون الأيام السوداء التى مروا بها بسبب الخراب والدمار الذى خلفه الثأر.
وهذا ما جعل مندوب “موقع الكمين” يلتقى العمدة غلاب عبيد غلاب ليحكى له عن مدارس الصلح الثلاث فى قضايا الثأر، والمدرسة الرابعة التى قام بتأسيسها والمعمول بها حاليا فى الصعيد.
لقد شهد تاريخ الصراعات القبلية فى الصعيد تعاقب 4 مدارس للصلح فى قضايا الثأر.
يقول العمدة غلاب لـ “موقع الكمين” إن المدرسة الأولى للصلح هى مدرسة “العبابدة” نسبة إلى قبائل العبابدة الذين قاموا بتأسيسها، وهى مدرسة تجبر القاتل على حمل “القودة” وهو “عار” وملفوف بالكفن وحافى القدمين وحليق شعر الرأس ومجرور من رقبته.
ويضيف العمدة غلاب أن هذه المدرسة كان لها شيوع فى صعيد مصر من الأربعينيات حتى نهاية الستينيات من القرن الماضى، وهى مدرسة قاسية لا تراعى الوضع الإنسانى للقاتل بل تجبره على السير لمسافة 3 كيلو مترات مشيا على الأقدام، حتى يصل لديوان بيت القتيل، كما تجبر القاتل على التخلى عن قبيلته والانضمام لقبيلة القتيل، لتسببه فى إخلاء القبيلة من ولدها، لذلك عليه أن يملأ فراغ القتيل بل ويجبرونه على الزواج منهم ويعطونه ما يتعايش منه، ويصبح ملكهم، إذا مات يدفن فى مقابرهم، ويقيمون له سرادق عزاء، بل إذا قٌتل يؤخذ بثأره.
أما المدرسة الثانية -كما يحددها العمدة غلاب- فهى مدرسة “إقليم إدفو” بأسوان وبعض قرى قنا الجنوبية، وهى مدرسة تجبر القاتل على ارتداء الجلباب الأسود القصير “فوق الركبة”، ويكون حافى القدمين، وحليق الرأس، ومجرور من الرقبة.
وهذه المدرسة لا يوجد فيها زواج للقاتل من أهل القتيل، نظرا لأنها مدرسة طبقت فى أماكن لقبائل لا تسمح لبناتها بالزواج من غريب، ولكن توجد فيها إقامة للقاتل عند أهل القتيل، ولكن دون اختلاط بهم.
وعن المدرسة الثالثة يقول العمدة غلاب إنها مدرسة “الأسرة الدندراوية” وهى التي أرساها الأمير العباس الدندراوى فى قرية دندرة بقنا، وهى تجبر القاتل على تقديم “القودة” وهو مرتدى الجلباب الأسود المقلوب، ومجرور من رقبته، وحافى القدمين، وهذه المدرسة تقوم بإعدال الجلباب الأسود للقاتل حين يقف أمام أهل القتيل، وفلسفة هذه المدرسة تقوم على أساس أن إعدال الجلباب للقاتل نوع من إعدال هيئته وحاله من الممات الذى كان ينتظره إلى الحياة والبقاء فى الدنيا.
بعدها أتت المدرسة الرابعة وهى التي يتحدث عنها بالتفصيل مؤسسها العمدة غلاب، قائلاً إنها تعتمد على شقين، الشق الأول هو الأخذ بأسلوب البساطة الذى يؤدى لاحترام أدمية الإنسان، بمعنى أن يؤخذ القاتل بجلبابه العادى وإلغاء لف الكفن وتبديله بكتابة اسم القاتل وتاريخ الصلح وإعطائه لأهل القتيل ليكون ذكرى وتخفيفا عن تجرع الحزن على قتيلهم، مع إلغاء جر الرقبة لأنه يجعل الإنسان قريبا من البهيمة.
وتغير الأمر طبقا للمدرسة الرابعة كما يقول العمدة غلاب من جر الرقبة إلى أن يقوم اثنان من هيئة الصلح بإمساكه من ذراعيه وتسليمه إلى أهالى القتيل، وهذا يعتبر رضوخا للمعنى اللغوى للقودة الذى أتى من معنى “قاد إليك القاتل فهب له الحياة أو هب له الموت”، وغالبا تسليم القاتل يكون على أيدى الشرطة مع إلغاء أن يكون القاتل حليق الرأس، وإنما يكفى القاتل أن يكون بلا “عمة” أو غطاء للرأس، لأن الحكمة الحقيقية للقودة أن يكون القاتل شبيها بإنسان ميت يريد أن يقبر في قبر، وأن يلبس القاتل حذاء خفيفا مع تبديل مسافة الثلاثة كيلو مترات التي كان يُجبر القاتل على السير بها إلى مسافة أمتار قليلة مع جعل هيئة القودة التي كانت صامتة إلى قودة تكون مقبولة ومسموعة وترضى ولى الدم.
ويكمل العمدة غلاب: “إننى لذلك اخترعت واستقيت من تراثنا العربى الخالد تلك الكلمات التي يرددها القاتل لولى الدم، وهى: “أنا جئت إليك وأطلب منك الصفح والعفو عما بدر منى”، ثم يرد عليه ولى الدم: “من أجل الله ورسوله والمؤمنين والحضور الطيب عفوت عنك”.
أضاف: “من الإلزام والكلمة النابعة من القلب بجانب مراعاتها للبعد الإنسانى وقربها من أحكام الشرع الإسلامى اكتسبت مدرستي الشيوع والنجاح وهذا قمة النجاح في مجتمع ينظر للقودة على أنها عار”.
ويسترسل العمدة غلاب فى كلامه، قائلا “إن مدرستى تقوم على أن القودة تؤخذ في القاتل المتعمد فقط، ولها قاعدة معروفة، فإذا أصيب المقتول ومات قبل انقضاء عام تؤخذ القودة الجبرية من الذى أصاب، على شرط أن يموت المصاب قبل سنة، أما إذا مات بعد عام ويوم فلا تؤخذ القودة الجبرية مراعاة للبعد الشفائى للقتيل مع إهدار دم من لم يقبل الصلح إذا كان قاتلاً في مكان عام وأمام الناس”.
ولابد من توضيح ملاحظة مهمة، وهى أن المدرسة الرابعة تلقى تأييدا من الأمن والمحافظين وأعضاء الحزب الوطنى، وهى التي جعلت العمدة يطلب تصريحا من الأمن للحديث مع مندوب “بوابة الأهرام”، ويرفض الإجابة عن أسئلة مهمة مثل: كيف لمدرسته التى بدأت في الثمانينيات أن يكون لها الشيوع فى مدة بسيطة دون أن تكون هناك سلطة تدفعها للوجود؟.
أما الباحث فتحى عبدالسميع فقد قال لـ “موقع الكمين” إن حوادث الثأر في الصعيد لم تعد مرتبطة بالأرض الزراعية والتركيبة الاجتماعية للصعيد بقدر ارتباطها بأمور سخيفة، كحوادث الهواتف المحمولة (الموبايلات) وخطف الأطفال ودخول عادات وتقاليد ذميمة في الصلح، كان من ضحاياها الأطفال وهم ضحايا المدارس الثلاث الأخرى قبل المدرسة الرابعة، التي تجعل وجودهم في الصلح المرتبط بهم ذميما، فالمدرسة الرابعة شهدت أكثر من مصالحة قبلية مرتبطة بالأطفال، منها حوادث خطف لهم، فالعام الماضى قامت عائلة بقرية “جراجوس” بمركز قوص بخطف طفل صغير من جزيرة “مطيرة”.
أضاف الباحث أن حادثة الخطف الغريبة للطفل، جعلت أهالى الجزيرة يدخلون في مشاكل مع القرية الأخرى ونجح الأمن في إعادة الطفل، وتدخلت لجنة المصالحة فى التوافق، لكن لجنة المصالحة وجدت نفسها تبحث عن صياغات جديدة للصلح وهو تقديم الاعتذار العلنى أمام المنصة، وهو صلح جديد لا تقدم فيه قودة أوغرامات مالية.
وهذا الصلح الذى شهده أكثر من 2000 شخص وقيادات أمنية من المحافظة ورجال الدين الإسلامى والمسيحى، جعل عمد ومشايخ المصالحات يعلنون أمام الجميع أن العنف هو العنف، حتى لو تم من أجل إردب من القمح أو على رغيف عيش.
ويبقى السؤال: ما معنى وجود عدة مدارس للمصالحة فى بيئة يقام فيها كل يوم صلح؟.
Share this content:
إرسال التعليق